• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

يتامى الحياة

نبيل العوضي

يتامى الحياة

قصّة من واقع الحياة

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) (الضحى/ 9). آية حكيمة أنزلها المولى عزّوجلّ من فوق سبع سماوات طباق، واليتيم الحقيقي هو يتيم الحياة الذي لا يجد يد حانية تعطف عليه أو نفوس كريمة زرع الله الرحمة في قلوبها.. وحبيبنا رسول الله (ص) هو رائد اليتامى وهو القدوة الحسنة لجميع المسلمين وللبشرية جمعاء، وكلّنا نعرف حديثه الكريم: «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنّة، وأشار إلى أصبعيه السبّابة والوسطى»، فطوبى لليتـامى والمساكين في هذا الكون الفسيح، الواسع، والبُشرى لمن كفل يتيماً ولم يقــــهره والويل كلّ الويل لمن كان قلبه قُد من صخر وأظهر القسوة والغِل في معاملة اليتيم!

وهذا ما عايشته في قصّة صاحبي عبدالغفور الذي جاء إلى الحياة وحيداً مع أُمّه البائسة التي فرّت من عذاب زوجها ومعاملته القاسية لها، فرّت بوليدها الوحيد عبدالغفور إلى إحدى المدن الساحلية، وفي تلك المدينة استأجرت أُمّه غرفة وخرجت إلى الحياة لتكسب رزقها ورزق ولدها عبدالغفور، وقامت بإلحاقه بإحدى المدارس، يقول عبدالغفور: وجدتني يا صاحبي أختلط بأطفال يتحدّثون عن آبائهم، ولا أجد أنا مَن أتحدّث عنه واستمر بنا الحال هكذا فترة من الزمن، أُمّي تعمل حيناً وتتعطل في أحيان كثيـرة.

ومضت السنوات سريعاً سريعاً، حتى حصلت على الشهادة الإعدادية والتحقت بإحدى المدارس المتوسطة، وكانت أُمّي فى تلك الفترة قد حصلت على الطلاق من أبي وتزوّجت من رجل متوسط العمر ويقيم في شقة صغيرة ويعمل موظفاً، وتركنا الغرفة التي كنّا نقيم بها أنا وأُمّي وذهبنا للإقامة في شقة زوجها عسران واستقرّت بنا الحياة معه عدّة شهور، ثمّ صحوت ذات يوم من نومي فلم أجد أُمّي في الشقة، وإنّما وجدت عسران زوجها يجمع ملابسي القليلة ويعطيها لي في كيس قائلاً إنّه تشاجر مع أُمّي خلال الليل وألقي عليها اليمين فخرجت من البيت مع أوّل ضوء للصباح وتركتني هكذا وحيداً، وأنّ عليَّ أن أخرج من الشـقة وأن أبحث لنفسي عن مأوى، فأخذت كيس ملابسي وكيس المدرسة وأنا منكسر الخاطر والفؤاد ونزلت إلى الشارع في السادسة صباحاً لا أعرف أين أذهب ولا لمن ألجأ؟ وأسأل نفسي ماذا أفعل يارب؟!

ماذا فعلت في دُنياي كي يحدث ذلك لي؟! لا أب ولا أُمّ، وسرتُ في شوارع المدينة الخالية في الصباح الباكر أرتجف من البرد وأفكر ماذا يستطيع أن يفعل صبي مثلي عمره 15 سنة بلا أب ولا أُمّ ولا أقارب ولا مأوى ولا مورد رزق؟! وسالت دموعي رغماً عني، وفجأة استوقفني بواب عمارة عجوز وسألني مالك يا بني، فقلتُ له: هل أستطيع أن أترك عندك هذا الكيس حتى أذهب للمدرسة وأعود يا عم أيوب، ورحّب الرجل بارتياح وسألني مرّة أُخرى عمّا يبكيني فرويت له باختصار قصّتي، واستمع لها متأثّراً، ثمّ دعاني للإفطار معه وأعطاني عشـرة قروش للمواصلات وذهبت إلى مدرستي وأمضيت فيها النهار حزيناً مكسور الخاطر وعدتُ إلى عم أيوب الطيِّب فوجدتُ قد علّق ملابسي على مسمار في غرفته الصغيرة، وبادرني بأنّه قرّر أن أقيم معه إلى أن يقضي الله أمراً كان مفـعولاً، وطالبني بالاجتهاد في الدراسة لكي أتخرج وأعمل.

تصوّر يا صديقي، هكذا وجدتُ المأوى بعد أن تخيّلت منذ ساعات أنّ أرض الله الواسعة قد ضاقت بي، وعشتُ مع هذا الرجل العطوف ودارت الأيام دورتها وكنتُ أُساعده في عمله مثل مسح سُلم العمارة وقضاء طلبات السكان، وكان الله يرزقني قروش قليلة من عملي هذا، وكنتُ أرتدي الزي الموحّد للمدرسة طوال اليوم نهاراً وليلاً، ووفقني الله وانتقلت للسنة الثانية، وفي إجازة الصيف كنتُ أعمـل في أي عمل (حلال) كي أوّفر مصاريف الدراسة! وعندما بدأ العام الدراسي الجديد، تفتق ذهني عن وسيلة جديدة لكسب الـرزق، فادّخرتُ بضع جنيهات وبدأتُ أنهض مبكراً كلّ صباح ثمّ أذهب إلى الفرن لأشتري ثلاثون رغيفاً من الخبز الأفرنجي وبعض الجبن والطعمية، ثمّ أصنع السـدوتشات وأضعها في حقيبة كُتُبي وأذهب للمدرسة فأبيعها لزملائي الطلبة في الفسحة.

واكسب في كلّ ساندوتش قرشاً أو قرشين واستمرالحال معي هكذا إلى أن شعر فرّاشين المدرسة بعملي وهو بالطبع لا يرضيهم أن يشاركهم أحد في رزقهم، فأعدوا لي (كميناً) نعم يا صديقي لقد تعمدوا إذلالي وإهانتي أمام زملائي عندما كنتُ أقف ذات يوم في فناء المدرسة أبيع الساندوتشات لزملائي متسـتراً لأنّ ذلك ضد اللوائح لتعارضه مع وجود مقصف يبيع الطعام للطلبة، فلم أشعر إلّا وعدد من فرّاشي المدرسة يحيطون بي من كلّ جانب كما يحيط رجال الشرطة بموزّع المخدرات، ثمّ يطبقون عليَّ ويخطفون الحقيبة من يدي فتنفرط وتقع جميع الساندوتشات على الأرض! وتجمّع التلاميذ حولي فشعرت بمهانة كبيرة لم أشعر بها من قبل في حياتي رغم شقائها وانفجرتُ بالبكاء بغير وعي واستسلمتُ لهم ودفعوني إلى حجرة مدير المدرسة، وقبل أن أصل إليها جاءتني رحمة الله وعطفه باليتامى أمثالي فقد سمع الأخصائي الاجتماعى بالمدرسة أصواتنا وجاء مهرولاً إلينا وأمر فرّاشي المدرسة بأن يتركوني وأخذني معه إلى حجرته واستـمع إليَّ جيِّداً.

والله يا أخي لقد رأيتُ الدموع تفرّ من عينيه تأثّراً بما سمع من قـصّتي ومأساتي، وهذا من رحمة ربّي بي أن قيّض لي إنساناً رحيم القلب ذو إحساس مرهف، فقد وقف بجانبي وذهب معي إلى مدير المدرسة وعرض عليه الموضوع كلّه بمنتهى الأمانة والموضوعية، فأصدر المدير قراراً بتعييني بمقصف المدرسة لإعداد الساندوتشات للطلبة في الفترة الثانية بأجر يومي قدره جنيهان ونصف! هكذا يا صاحبي وجدتُ الأمان والرزق فدعوت للأخصائي الاجتماعي ومـدير المدرسة أن يجزيهما الله خير الجزاء على ما فعلاه معي، وتحسّنت أحوالي كثيراً بل وواصل الأُستاذان مساعدتي ومؤازرتي في كلّ مشاكلي، ولأوّل مرّة استطعتُ شراء زياً مدرسياً جديداً بدلاً من الزي المهلهل الذي كنتُ أرتديه باستمرار منذ عامين، وانتهت دراستي وحصلت على شهادتي المتوسطة، لكن المشكلة الكبرى التي تقابلني حالياً هي صعوبة بل استحالة الحصول على عمل !

 وماذا يفعل يتيم مثلي لا أب له ولا أُمّ تحنو عليه؟! فنحن يتامى الحياة ينشغل عنّا المجتمع وأطلق الناس علينا مؤخراً (أولاد الشوارع) وكأنّنا حشرات قاتلة أو جراثيم معدية يخشى منها الجميع!! وهكذا نرى أنّ أطفال الشوارع فئة من المجتمع عاشت وما زالت تعيش مظلومة من الجميع، والله لقد تمزّق قلبي تأثّراً بمأساة صديقي عبدالغفور، وقلتُ له هوّن عليك يا أخي وأعلم بأنّ الله معك وهو معك دائماً، تذكّر ذلك عندما هيّأ لك المولى في زحام الحياة عم أيوب ذلك العجوز الطيِّب الذي وجدك يتيماً فأواك، أنت يا صاحبي من يتامى الحياة الذين قال عنهم أمير الشعراء أحمد شوقي:

ليس اليتيم مَن انتهى أبواه من همّ الحياة وخلّفه ذليلاً

إنّ اليتيم هو الذي تلقى له أُمّاً تخـــلّت أو أبـاً مشغولاً

هذا هو بيت القصيد يا صديقي، فيجب على المجتمع العربي والمُسلِم بأجمعه أن يتكاتف لمساعدة هؤلاء اليتامى المساكين، وذلك بأن يكون لهم الأولوية المطلقة في جميع المهن والوظائف وذلك لحمايتهم من الانحراف والغرق في بحر الحياة الجارف وقسوة الأيام التي لا ترحم أحد!!

ويكفيهم معاناتهم من البؤس والحرمان والشقاء منذ فجر طفولتهم وربيع شبابهم اطمئن يا صاحبي وكن على يقين بأنّ الله عزّوجلّ سوف يسخّر لك ولأمثالك من يتامى الحياة مَن يحنو عليهم ويمدّ لهم يد العون والمساعدة والعمل الشريف.

ارسال التعليق

Top